فصل: ذكر غزوة الخندق وهي غزوة الأحزاب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر غزوة حمراء الأسد:

لما كان الغد من يوم الأحد أذن مؤذن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالغزو وقال: لا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس، فخرج ليظن الكفار به قوة، وخرج معه جماعة جرحى يحملون نفوسهم وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد، وهي من المدينة على سبعة أميال، فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ومر به معبد الخزاعي، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، بتهامة، وكان معبد مشركاً، فقال: يا محمد لقد عز علينا ما أصابك. ثم خرج من عند النبي، صلى الله عليه وسلم، فلقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليستأصلوا المسلمين بزعمهم، فلما رأى أبو سفيان معبداً قال: ما وراءك؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله، قد جمع معه من تخلف عنه وندموا على ما صنعوا، وما ترحل حتى ترى نواصي الخيل. قال: فوالله قد أجمعنا الرجعة لنستأصل بقيتهم. قال: إني أنهاك عن هذا، فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه.
ومر بأبي سفيان ركب من عبد القيس فقال لهم: بلغوا عني محمداً رسالة وأحمل لكم إبلكم هذه زبيباً بعكاظ. قالوا: نعم. قال: أخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصلهم. فمروا بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وهو بحمراء الأسد فأخبروه، فقال صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل. ثم عاد إلى المدينة وظفر في طريقه بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص، وبأبي عزة عمرو بن عبيد الله الجمحي، وكان قد تخلف عن المشركين بحمراء الأسد، ساروا وتركوه نائماً، وكان أبو عزة قد أسر يوم بدر، فأطلقه رسول الله، صلى الله عليه وسلم بغير فداء لأنه شكا إليه فقراً وكثرة عيال، فأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عليه العهود أن لا يقاتله ولا يعين على قتاله، فخرج معهم يوم أحد وحرض على المسلمين، فلما أتي به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال له: يا محمد امنن علي. قال: المؤمن لا يلدغ من حجر مرتين. وأمر به فقتل.
وأما معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وهو الذي جدع أنف حمزة ومثل به مع من مثل به، وكان قد أخطأ الطريق، فلما أصبح أتى دار عثمان بن عفان، فلما رآه قال له عثمان: أهلكتني وأهلكت نفسك. فقال: أنت أقربهم مني رحماً وقد جئتك لتجيرني. وأدخله عثمان داره، وقصد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليشفع فيه، فسمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: إن معاوية بالمدينة فاطلبوه؛ فأخرجوه من منزل عثمان، وانطلقوا به إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال عثمان: والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لأطلب له أماناً فهبه لي، فوهبه له وأجله ثلاثة أيام وأقسم لئن أقام بعدها ليقتلنه، فجهزه عثمان وقال له: ارتحل.
وسار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى حمراء الأسد وأقام معاوية ليعرف أخبار النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما كان اليوم الرابع قال النبي، صلى الله عليه وسلم: إن معاوية أصبح قريباً ولم يبعد، فاطلبوه، فطلبه زيد بن حارثة وعمار فأدركاه بالحماة فقتلاه.
وهذا معاوية جد عبد الملك بن مروان بن الحكم لأمه.
وفيها قيل ولد الحسن بن علي في النصف من شهر رمضان. وفيها علقت فاطمة بالحسين، وكان بين ولادتها وحملها خمسون يوماً. وفيها حملت جميلة بنت عبد الله بن أبي عامر غسيل الملائكة في شوال. ودخلت:

.السنة الرابعة من الهجرة:

.ذكر غزوة الرجيع:

في هذه السنة في صفر كانت غزوة الرجيع. وكان سببها أن رهطاً من عضل والقارة قدموا على النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن فينا إسلاماً فابعث لنا نفراً يفقهوننا في الدين ويقرئوننا القرآن. فبعث معهم ستة نفر وأمر عليهم عاصم بن ثابت، وقيل: مرثد بن أبي مرثد، فلما كانوا بالهدأة غدروا واستصرخوا عليهم حياً من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فبعثوا لهم مائة رجل، فالتجأ المسلمون إلى جبل فاستنزلوهم وأعطوهم العهد، فقال عاصم: والله لا أنزل على عهد كافر، اللهم خبر نبيك عنا! وقاتلهم هو مرثد وخالد بن البكير، ونزل إليهم ابن الدثنة وخبيب بن عدي ورجل آخر فأوثقوهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أتبعكم! فقتلوه وانطلقوا بخبيب وابن الدثنة فباعوهما بمكة، فأخذ خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث بأحد، فأخذوه ليقتلوه بالحارث، فبينما خبيب عند بنات الحارث استعار من بعضهن موسى يستحد بها للقتل، فدب صبي لها فجلس على فخذ خبيب والموسى في يده، فصاحت المرأة، فقال خبيب: أتخشين أن أقتله؟ إن الغدر ليس من شأننا. فكانت المرأة تقول: ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، لقد رأيته وما بمكة ثمرة وإن في يده لقطفاً من عنب يأكله ما كان إلا رزقاً رزقه الله خبيباً.
فلما خرجوا من الحرم بخبيب ليقتلوه قال: ردوني أصل ركعتين، فتركوه، فصلاهما، فجرت سنة لمن قتل صبراً، ثم قال خبيب: لولا أن تقولوا جزع لزدت، وقال أبياتاً، منها:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً ** على أيّ شيء كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ ** يبارك على أوصال شلوٍ ممزّع

اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً! ثم صلبوه.
وأما عاصم بن ثابت فإنهم أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وكانت نذرت أن تشرب الخمر في رأس عاصم لأنه قتل ابنيها بأحد، فجاءت النحل فمنعته، فقالوا: دعوه حتى يمسي فنأخذه. فبعث الله الوادي فاحتمل عاصماً، وكان عاهد الله أن لا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك، فمنعه الله في مماته كما منع في حياته.
وأما ابن الدثنة فإن صفوان بن أمية بعث به مع غلامه نسطاس إلى التنعيم ليقتله بابنيه، فقال نسطاس: أنشدك الله أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: ما أحب أن محمداً الآن مكانه الذي هو فيه شوكة تؤذيه وأنا جالسٌ في أهلي. فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يجب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً. ثم قتله نسطاس.
خبيب بضم الخاء المعجمة، وفتح الباء الموحدة، بعدها ياء تحتها نقطتان، وآخره باء موحدة أيضاً. والبكير بضم الباء الموحدة، تصغير بكر.

.ذكر إرسال عمرو بن أمية لقتل أبي سفيان:

ولما قتل عاصم وأصحابه بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمرو ابن أمية الضمري إلى مكة مع رجل من الأنصار وأمرهما بقتل أبي سفيان بن حرب، قال عمرو: فخرجت أنا ومعي بعير لي وبرجل صاحب علةٌ، فكنت أحمله على بعيري حتى جئنا بطن يأجج، فعقلنا بعيرنا في الشعب وقلت لصاحبي: انطلق بنا إلى أبي سفيان لنقتله، فإن خشيت شيئاً فاحلق بالبعير فاركبه والحق برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأخبره الخبر عني. وأوغل بالبلد يحث السياق.
فدخلنا مكة ومع يخنجر قد أعددته إن عاقني إنسان ضربته به، فقال لي صاحبي: هل لك أن نبدأ فنطوف ونصلي ركعتين؟ فقلت: إن أهل مكة يجلسون بأفنيتهم وأنا أعرف بها. فلم نزل حتى أتينا البيت فطفنا وصلينا ثم خرجنا فمررنا بمجلس لهم، فعرفني بعضهم فصرخ بأعلى صوته: هذا عمرو بن أمية! فثار أهل مكة إلينا وقالوا: ما جاء إلا لشر، وكان فاتكاً متشيطناً في الجاهلية، فقلت لصاحبي: النجاء! هذا الذي كنت أحذر، أما أبو سفيان فليس إليه سبيل، فانج بنفسك. فخرجنا نشتد حتى صعدنا الجبل فدخلنا غاراً فبتنا فيه ليلتنا ننتظر أن يسكن الطلب. قال: فوالله إني لفيه إذ أقبل عثمان بن مالك التيمي يختل بفرس له، فقام على باب الغار، فخرجت إيه فضربته بالخنجر، فصاح صيحةً أسمع أهل مكة، فأقبلوا إليه ورجعت إلى مكاني، فوجدوه وبه رمق، فقالوا: من ضربك؟ قال: عمرو بن أمية، ثم مات ولم يقدر يخبرهم بمكاني، وشغلهم قتل صاحبهم عن طلبي، فاحتلموه ومكثنا في الغار يومين حتى سكن عنا الطلب، ثم خرجنا إلى التنعيم، فإذا بخشبة خبيب وحوله حرس، فصعدت خشبته واحتملته على ظهري، فما مشيت به إلا نحو أربعين خطوة حتى نذروا بي فطرحته، فاشتدوا في أثري، فأخذت الطريق فأعيوا ورجعوا، وانطلق صاحبي فركب البعير وأتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره. وأما خبيب فلم ير بعد ذلك وكأن الأرض ابتلعته.
قال: وسرت حتى دخلت غاراً بضجنان ومعي قوسي وأسهمي، فبينا أنا فيه إذ دخل علي رجل من بني الدئل أعور طويل يسوق غنماً فقال: من الرجل؟ قلت: من بني الدئل، فاضطجع معي ورفع عقيرته يتغنى ويقول:
وست بمسلمٍ ما دمت حيّاً ** ولست أدين دين المسلمينا

ثم نام فقتله ثم سرت، فإذا رجلان بعثتهما قريش يتجسسان أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرميت أحدهما بسهم فقتلته وأستأسرت الآخر، فقدمت على النبي، صلى الله عليه وسلم، وأخبرته الخبر، فضحك ودعا لي بخير.
وفي هذه السنة تزوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زينب بنت خزيمة أم المساكين من بني هلال في شهر رمضان، وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث فطلقها.
وولي المشركون الحج في هذه السنة.

.ذكر بئر معونة:

في هذه السنة في صفر قتل جمع من المسلمين ببئر معونة. وكان سبب ذلك أن أبا براء بن عازب بن عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة، سيد بني عامر بن صعصعة، قدم المدينة وأهدى للنبي، صلى الله عليه وسلم، هدية فلم يقبلها وقال: يا أبا براء لا أقبل هدية مشرك، ثم عرض عليه الإسلام فلم يبعد عنه ولم يسلم، وقال: إن أمرك هذا حسنٌ، فلو بعثت رجلاً من أصحابك إلى أهل نجد يدعوهم إلى أمرك لرجوت أن يستجيبوا لك. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أخشى عليهم أهل نجد. فقال أبو براء: أنا لهم جارٌ.
فبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سبعين رجلاً، فيهم: المنذر بن عمرو الأنصاري المعنق ليموت، والحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان، وعامر بن فهيرة، وغيرهم، وقيل: كانوا أربعين، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب النبي، صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر إلى الكتاب وعدا على حرام فقتله، فلما طعنه قال: الله أكبر فزت ورب الكعبة! واستصرخ بني عامر، فلم يجيبوه وقالوا: لن نخفر أبا براء، فقد أجارهم، فاستصرخ بني سليم: عصية ورعلاً وذكوان، فأجابوه وخرجوا حتى أحاطوا بالمسلمين فقاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد الأنصاري، فإنهم تركوه وبه رمق، فعاش حتى قتل يوم الخندق.
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية ورجل من الأنصار، فرأيا الطير تحوم على العسكر فقالا: إن لها شأناً، فأقبلا ينظران، فإذا صرعى، وإذا الخيل واقفة، فقال عمرو: نلحق برسول الله، صلى الله عليه وسلم، فنخبره الخبر. فقال الأنصاري: لا أرغب بنفسي عن موطن فيه المنذر بن عمرو، ثم قاتل القوم حتى قتل، فأخذوا عمرو بن أمية أسيراً. فلما علم عامر أنه من سعد أطلقه، وخرج عمرو حتى إذا كان بالقرقرة لقي رجلين من بني عامر فنلا معه ومعهما عقد من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يعلم به عمرو فقتلهما، ثم أخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، الخبر، فقال له: لقد قتلت قتيلين لأدينهما. ثم قال رسول الله: هذا عمل أبي براء، فشق عليه ذلك.
وكان فيمن قتل عامر بن فهيرة، فكان عامر بن الطفيل يقول: من الرجل منهم لما قتل رفع بين السماء والأرض؟ قالوا: هو عامر بن فهيرة. وقال حسان بن ثابت يحرض بني أبي براء على عامر بن الطفيل:
بني أمّ ألم يرعكم ** وأنتم من ذوائب أهل نجد

تهكّم عامرٍ بأبي براء ** ليخفره وما خطأٌ كعمد

في أبيات له. فقال كعب بن مالك:
لقد طارت شعاعاً كلّ وجهٍ ** خفارة ما أجار أبو براء

في أبيات أخرى.
فلما بلغ ربيعة بن أبي براء ذلك حمل على عامر بن الطفيل فطعنه، فخر عن فرسه، فقال: إن مت فدمي لعمي. وأنزل الله عز وجل، في أهل بئر معونة قرآناً: بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه، ثم نسخت.
معونة بفتح الميم، وضم العين المهملة، وبعد الواو نون. وحرام بالحاء المهملة، والراء. وملحان بكسر الميم، وبالحاء المهملة.

.ذكر إجلاء بني النضير:

وكان سبب ذلك أن عامر بن الطفيل أرسل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يطلب دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية، وقد ذكرنا ذلك.
فخرج النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى بني النضير يستعينهم فيها ومعه جماعة من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي، فقالوا: نعم نعينك على ما أحببت، ثم خلا بعضهم ببعض وتآمروا على قتله، وهو جالسٌ إلى جنب جدار، فقالوا: من يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب له عمرو بن جحاش، فنهاهم عن ذلك سلام بن مشكم وقال: هو يعلم، فلم يقبلوا منه، وصعد عمرو بن جحاش، فأتى الخبر من السماء إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بما عزموا عليه، فقام وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتى آتيكم، وخرج راجعاً إلى المدينة، فلما أبطأ قام أصحابه في طلبه، فأخبرهم الخبر وأمر المسلمين بحربهم، ونزل بهم، فتحصنوا منه في الحصون، فقطع النخل وأحرق وأرسل إليهم عبد الله بنأبي وجماعة معه أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم وإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن خرجتم خرجنا معكم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من الأموال إلا السلاح، فأجابهم إلى ذلك، فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام، فكان ممن سار إلى خيبر كنانة بن الربيع وحيي بن أخطب، وكان فيهم يومئذ أم عمرو صاحبة عروة بن الورد التي ابتاعوا منه، وكانت غفارية.
فكانت أموال النضير لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحده يضعها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة ذكرا فقراً فأعطاهما. ولم يسلم من بني النضير إلا يامين بن عمير بن كعب، وهو ابن عم عمرو بن جحاش، وأبو سعيد بن وهب، وأحرزا أموالهما.
واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وكانت رايته على علي بن أبي طالب.
سلام بتشديد اللام. ومشكم بكسر الميم، وسكون الشين المعجمة، والكاف.

.غزوة ذات الرقاع:

أقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالمدينة بعد بني النضير شهري ربيع ثم غزا نجداً يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان حتى نزل نخلاً، وهي غزوة الرقاع، سميت بذلك لأجل جبل كانت الوقعة به فيه سواد وبياض وحمرة، فاستخلف على المدينة عثمان بن عفان، فلقي المشركين ولم يكن قتال، وخاف الناس بعضهم بعضاً، فنزلت صلاة الخوف، وقد اختلف الرواة في صلاة الخوف، وهو مستقصى في كتب الفقه.
وجاء رجل من محارب إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فطلب منه أن ينظر إلى سيفه، فأعطاه السيف، فلما أخذه وهزه قال: يا محمد أما تخافني؟ قال: لا. قال: أما تخافني وفي يدي السيف؟ قال: لا، يمنعني الله منك، فرد السيف إليه.
وأصاب المسلمون امرأة منهم، وكان زوجها غائباً، فلما أتى أهله أخبر الخبر، فحلف لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، دماً، وخرج يتبع أثر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فنزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: من يحرسنا الليلة؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فأقاما بفم شعب نزله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واضطجع المهاجري وحرس الأنصاري أول الليل وقام يصلي، وجاء زوج المرأة فرأى شخصه فعرف أنه ربيئة القوم فرماه بسهم فوضعه فيه فانتزعه وثبت قائماً يصلي، ثم رماه بسهم آخر فأصابه فنزعه وثبت يصلي، ثم رماه بالثالث فوضعه فيه فانتزعه ثم ركع وسد، ثم أيقظ صاحبه وأعلمه، فوثب، فلما رآهما الرجل علم أنهما علما به، فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري قال: سبحان الله ألا أيقظتني أول ما رماك؟ قال: كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن أقطعها، فلما تابع علي الرمي أعلمتك، وايم الله لولا خوفي أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها.
وقيل: إن هذه الغزوة كانت في المحرم سنة خمس من الهجرة.

.ذكر غزوة بدر الثانية:

سميت أيضاً غزوة السويق وفي شعبان منها خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى بدر لميعاد أبي سفيان بن حرب حتى نزل بدراً فأقام عليها ثماني ليالٍ ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان في أهل مكة إلى مر الظهران، وقيل: إلى عسفان، ثم رجع ورجعت قريش معه، فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق.
واستخلف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على المدينة عبد الله بن رواحة.
وفيها تزوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أم سلمة.
وفيها أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود.
وفيها، في جمادى الأولى، مات عبد الله بن عثمان بن عفان، وأمه رقية بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صلى عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان عمره ست سنين. وفيها ولد الحسين بن علي بن أبي طالب، في قولٍ. وولي الحج فيها المشركون.

.الأحداث في السنة الخامسة من الهجرة:

فيها تزوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زينب بنت جحش، وهي ابنة عمته، كان زوجها مولاه زيد بن حارثة، وكان يقال له زيد بن محمد. فخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يريده وعلى الباب ستر من شعر، فرفعته الريح فرآها وهي حاسرة فأعجبته وكرهت إلى زيد، فلم يستطع أن يقربها، فجاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: أرابك فيها شيء؟ قال: لا والله. فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: {أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله} الأحزاب: 37. ففارقها زيد وحلت، وأنزل الوحي على النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: من يبشر زينب أن الله قد زوجنيها؟ وقرأ عليهم قوله تعالى: {وَإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ} الآية؛ فكانت زينب تفخر على نسائه وتقول: زوجكن أهلوكن وزوجني الله من السماء.
وفيها كانت غزوة دومة الجندل في ربيع الأول، وسببها أنه بلغ النبي، صلى الله عليه وسلم، أن بها جمعاً من المشركين، فغزاهم، فلم يلق كيداً، وخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وغنم المسلمون إبلاً وغنماً وجدت لهم.
ومات أم سعد بن عبادة وسعد مع النبي، صلى الله عليه وسلم، في هذه الغزاة. وفيها وادع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عيينة بن حصن الفزاري أن يرعى بتغلمين وما والاها.
عيينة بضم العين، تصغير عين.

.ذكر غزوة الخندق وهي غزوة الأحزاب:

وكانت في شوال، وكان سببها أن نفراً من يهود من بني النضير، منهم: سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة ابن الربيع بن أبي الحقيق، وغيرهم، حزبوا الأحزاب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقالوا: نكون معكم حتى نستأصله، فأجابوهم إلى ذلك، ثم أتوا على غطفان فدعوهم إلى حرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأخبروه أن قريشاً معهم على ذلك، فأجابوهم، فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في مرة، ومسعر بن رخيلة الأشجعي في الأشجع.
فلما سمع بهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمر بحفر الخندق، وأشار به سلمان الفارسي، وكان أول مشهد شهده مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ حر، فعمل فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رغبة في الأجر وحثاً للمسمين، وتسلل عنه جماعة من المنافقين بغير علم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله في ذلك: {قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} النور: 63 الآية. وكان الرجل من المسلمين إذا نابته نائبة لحاجة لا بد منها يستأذن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيقضي حاجته ثم يعود، فأنزل الله تعالى: {إنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ} الآية الفتح 15.
وقسم الخندق بين المسلمين. فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان كل يدعيه أنه منهم، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: سلمان منا، سلمان من أهل البيت. وجعل لكل عشرة أربعين ذراعاً، فكان سلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن وعمرو بن عوف وستة من الأنصار يعملون، فخرجت عليهم صخرة كسرت المعول، فأعلموا النبي، صلى الله عليه وسلم، فهبط إليها ومعه سلمان فأخذ المعول وضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة، فكبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون، ثم الثانية كذلك، ثم الثالثة كذلك، ثم خرج وقد صدعها، فسأله سلمان عما رأى من البرق، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الأولى، وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثانية القصور الحمر من أرض الشام والروم، وأخبرني أن أمتي ظاهرة عيها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء، وأخبرني أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا، فاستبشر المسلمون.
وقال المنافقون: ألا تعجبون؟ يعدكم الباطل، ويخبركم أنه ينظر من يثرب الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا، فأنزل الله: {وَإذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُوراً} الأحزاب: 12.
فأقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من كنانة وتهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم حتى نزلوا إلى جنب أحد، وخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون فجعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف، فنزل هناك ورفع الذراري والنساء في الآطام.
وخرج حيي بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد سيد قريظة، وكان قد وادع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على قومه، فأغلق كعب حصنه ولم يأذن له وقال: إنك امرؤ مشؤوم، وقد عاهدت محمداً ولم أر منه إلا الوفاء. قال حيي: يا كعب قد جئتك بعز الدهر وببحر طامٍ، جئتك بقريش وقادتها وسادتها، وغطفان بقادتها، وقد عاهدوني أنهم لا يبرحون حتى يستأصلوا محمداً وأصحابه. قال كعب: جئتني بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماءه يرعد ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي! دعني ومحمداً. ولم يزل معه يفتله في الذروة والغارب حتى حمله على الغدر بالنبي، صلى الله عليه وسلم، ففعل ونكث العهد، وعاهده حيي إن عادت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، ونجم النفاق من بعض المنافقين، وأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمشركون عليه بضعاً وعشرين ليلة قريباً من شهر، ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل.
فلما اشتد البلاء بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المري، قائدي غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأجابا إلى ذلك، فاستشار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقالا: يا رسول الله شيء تحب أن تصنعه أم شيء أمرك الله به أو شيء تصنعه لنا؟ قال: بل لكم، رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم. فقال سعد بن معاذ: قد كنا نحن وهم على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا قرىً أو بيعاً، فحين أكرمنا الله بالإسلام نعطيهم أموالنا! ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فترك ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ثم إن فوارس من قريش، منهم: عمرو بن عبد ود أحد بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبد الله، وضرار بن الخطاب الفهري، خرجوا على خيولهم واجتازوا ببني كنانة وقالوا: تجهزوا للحرب وستعلمون من الفرسان. وكان عمرو بن عبد ود قد شهد بدراً كافراً وقاتل حتى كثرت الجراح فيه، فلم يشهد أحداً وشهد الخندق معلماً حتى يعرف مكانه، وأقبل هو وأصحابه حتى وقفوا على الخندق، ثم تيمموا مكاناً ضيقاً فاقتحموه، فجالت بهم خيولهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين، فأخذوا عليهم الثغرة، وكان عمرو قد خرج معلماً، فقال له علي: يا عمرو إنك عاهدت أن لا يدعوك رجل من قريش إلى خصلتين إلا أخذت إحداهما؟ قال: أجل. قال له عليك فإني أدعوك إلى الله والإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فإني أدعوك إلى النزال. قال: والله ما أحب أن أقتلك. قال علي: ولكني أحب أن أقتلك. فحمي عمرو عند ذلك فنزل عن فرسه وعقره ثم أقبل على علي، فتجاولا، وقتله علي، وخرجت خيلهم منهمة، وقتل مع عمرو رجلان، قتل علي أحدهما وأصاب آخر سهم فمات منه بمكة.
ورمي سعد بن معاذ بسهم قطع أكحله، رماه حبان بن قيس بن العرقة بن عبد مناف من بني معيص من عامر بن لؤي، والعرقة أمه، وإنما قيل لها العرقة لطيب ريح عرقها، وهي قلابة بنت سعد بن سهم وهي جدة خديجة أم أبيها أو هي أم عبد مناف بن الحارث. فلما رمى سعداً قال: خذها وأنا ابن العرقة. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: عرق الله وجهك في النار، ولم يقطع الأكحل من أحد إلا مات. فقال سعد: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أقاتلهم من قوم آذوا نبيك وكذبوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية.
وقيل: إن الذي رمى سعداً هو أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم. فلما قال سعد ما قال انقطع الدم.
وكانت صفية عمة النبي، صلى الله عليه وسلم، في فارع، حصن حسان ابن ثابت، وكان حسان فيه مع النساء لأنه كان جباناً، قالت: فأتانا آتٍ من اليهود فقلت لحسان: هذا اليهودي يطوف بنا ولا نأمنه أن يدل على عوراتنا فانزل إليه فاقتله. فقال: والله ما أنا بصاحب هذا. قالت: فأخذت عموداً ونزلت إليه فقتلته، ثم رجعت فقلت لحسان: انزل إليه فخذ سلبه فإنني يمنعني منه أنه رجل. فقال: والله ما لي بسلبه من حاجة.
ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعي أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت ولم يعلم قومين فمرني بما شئت. فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة». فخرج حتى أتى بني قريظة، وكان نديماً لهم في الجاهلية، فقال لهم: قد عرفتم ودي إياكم. فقالوا: لست عندنا بمتهم. قال: قد ظاهرتم قريشاً وغطفان على حرب محمد، وليسوا كأنتم، البلد بلدكم، به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه، وإن قريشاً وغطفان إن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين محمد ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم ثقةً لكم حتى تناجزوا محمداً. قالوا: أشرت بالنصح.
ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان ومن معه: قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمداً، وقد بلغني أن قريظة ندموا وقد أرسلوا إلى محمد: هل يرضيك عنا أن نأخذ من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم؟ فأجابهم: أن نعم، فإن طلبت قريظة منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحداً. ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: أنتم أهلي وعشيرتي. وقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم.
فلما كان ليلة السبت من شوال سنة خمسٍ كان مما صنع الله لرسوله أن أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان وقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقامٍ، قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً. فأرسلوا إليهم: إن اليوم السبت لا نعمل فيه شيئاً ولسنا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً ثقةً لنا فإنا نخشى أن ترجعوا إلى بلادكم وتتركونا والرجل ونحن ببلاده. فلما أبلغتهم الرسل هذا الكلام قالت قريش وغطفان: والله لقد صدق نعيم بن مسعود، فأرسلوا إلى قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً. فقالت قريظة عند ذلك: إن الذي ذكر نعيم بن مسعود لحقٌ. وخذل الله بينهم، وبعث الله عليهم ريحاً في ليالٍ شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم.
فلما انتهى إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، اختلاف أمرهم دعا حذيفة بن اليمان ليلاً فقال: انطلق إليهم وانظر حالهم ولا تحدثن شيئاً حتى تأتينا. قال حذيفة: فذهبت فدخلت فيهم والريح وجنود الله تفعل فيهم ما تفعل لا يقر لهم قدر ولا بناء ولا نار. فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش لينظر الرجل أمر جليسه، قال: فأخذت بيد الرجل الذي بجانبي فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان، ثم قال أبو سفيان: والله لقد هلك الخف والحافر وأخلفتنا قريظة ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب على ثلاث قوائم، ولولا عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إي أن لا أحدث شيئاً لقتلته.
قال حذيفة: فرجعت إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه، فأدخلني بين رجله وطرح علي طرف المرط، فلما سلم خبرته الخبر.
وسمعت غطفان بما فعلت قريش فعادوا راجعين إلى بلادهم، فلما عادوا قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا» فكان كذلك حتى فتح الله مكة.